لا لم تعد تلك الطفلة الصغيرة، ولا تلك البنية البريئة. لم تعد ذاك الكائن الحائر الذي يجد نفسه ذات صباح ودون سابق إنذار واقفا على عتبة الشباب، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. فلا هو إلى زمرة الصغار ينتمي ولا إلى جمع الكبار ينتهي. لم تعد تلك الفتاة التي لم تكتمل بعد أنوثتها. صارت اليوم غادة في السابعة عشرة من عمرها. أضحت شابة يافعة، منتصبة الهامة، فارعة الطول، كوردة يانعة تستقبل أشعة الشمس في ربيع العمر. هكذا قالت لها المرآة وهي ترقبها طول تلك السنوات.
ما قصة تلك المرآة؟ هي أيضا تغيرت. لم تعد مجرد تحفة فنية ولا عادت ترمز لخال محب قدم لها هدية. بل صارت لزينتها مطية ولنرجسيتها المراهقة حاضنة ذات شأن وأهمية. لم تعد تلك المرآةُ العاجيةُ تحتل الركن الأيمن في غرفتها بل هي تحتل الركن الأساسي في حياتها. تشهد بذلك دقائقها وساعاتها، تلك التي تنفقها أمام مرآتها، تطالع وجهها، تتفحص الهالات السود تحت عينيها إذا ما أسرفت في السهر، تدقق النظر في تلك الحبوب اللعينة التي غزت وجنتها، تصفف شعرها، تجرب تسريحة جديدة تعلمتها من مقطع في اليوتيوب، تحاول تقليد تلك الأمريكية التي فسرت لها كيف تصير نظراتها سهاما مرشوقة في قلوب الرجال. ولها أن تختار بين جموح القطة أو وداعة الغزال. كل ما تحتاج إليه قليل من الكحل وكثير من الصبر وهمة تناطح قمم الجبال. وليت شعري لو أنها صرفت نصف وقتها هذا في مذاكرة دروسها لكنها المراهقة قاتلها الله. وحيث أرادت أن تفتن الآخرين بجمالها افتتنت هي الأولى به وصارت مرآتها محرابا وزينتها طقوسا وتأملاتها صلاة.
ساعات طويلة بذلتها لتخرج في أبهى حلة، لتكون الأجمل في قسمها بل في معهدها بل في المدينة كلها. تجرب الثياب، تضيف الأكسسوارات، تمسك بحقيبة يدها يمينا فشمالا، تمشي كالعارضات، تقف كالعارضات، تنظر شزرا كالعارضات، تلعب دورا كالممثلات. لا هم لها سوى زينتها ومظهرها وكم عبارات إعجاب ستحصدها وكم عيون مسحورة ستشيعها وكم فتى سيخطب ودها ويطلب قربها. إلا أنها …
إلا أنها كانت عفيفة في جوهرها، تحب أن تكون أنيقة وفاتنة الجمال لكن دونما إغراء ولا ابتذال. تعرف بفطرتها السليمة أن خير لباس هو لباس التقوى وخير زينة للفتاة هي الحياء، في حلها وترحالها، في سكوتها وكلامها، في جدها وهزلها. لم تكن تحبذ أبدا تصرفات بعض صويحباتها الماجنة ممن يقصرن ميدعاتهن ويطلقن ضحكاتهن الرنانة في الفضاء. ثم إنها كانت تخاف ربها حين تتذكره، وتعيش في عذاب الضمير، تعلم جيدا أن لباسها على حشمته لا يوافق ما أمر الله به في كتابه. فهذا شعرها منطلق كالحصان الجامح على شاطئ وجهها، وهذا عطرها الفاخر يتبعها حيثما خرجت، وهذا فستانها الأزرق على طوله يصف بعض مفاتنها، فأين هي من لباس التقوى والحياء؟
هكذا أنّبتها المرآة ذات مساء وهي تحاورها…