ارجعي تحجبي فإنك لم تتحجبي 2

لا لم تعد تلك الطفلة الصغيرة، ولا تلك البنية البريئة. لم تعد ذاك الكائن الحائر الذي يجد نفسه ذات صباح ودون سابق إنذار واقفا على عتبة الشباب، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. فلا هو إلى زمرة الصغار ينتمي ولا إلى جمع الكبار ينتهي. لم تعد تلك الفتاة التي لم تكتمل بعد أنوثتها. صارت اليوم غادة في السابعة عشرة من عمرها. أضحت شابة يافعة، منتصبة الهامة، فارعة الطول، كوردة يانعة تستقبل أشعة الشمس في ربيع العمر. هكذا قالت لها المرآة وهي ترقبها طول تلك السنوات.

ما قصة تلك المرآة؟ هي أيضا تغيرت. لم تعد مجرد تحفة فنية ولا عادت ترمز لخال محب قدم لها هدية. بل صارت لزينتها مطية ولنرجسيتها المراهقة حاضنة ذات شأن وأهمية. لم تعد تلك المرآةُ العاجيةُ تحتل الركن الأيمن في غرفتها بل هي تحتل الركن الأساسي في حياتها. تشهد بذلك دقائقها وساعاتها، تلك التي تنفقها أمام مرآتها، تطالع وجهها، تتفحص الهالات السود تحت عينيها إذا ما أسرفت في السهر، تدقق النظر في تلك الحبوب اللعينة التي غزت وجنتها، تصفف شعرها، تجرب تسريحة جديدة تعلمتها من مقطع في اليوتيوب، تحاول تقليد تلك الأمريكية التي فسرت لها كيف تصير نظراتها سهاما مرشوقة في قلوب الرجال. ولها أن تختار بين جموح القطة أو وداعة الغزال. كل ما تحتاج إليه قليل من الكحل وكثير من الصبر وهمة تناطح قمم الجبال. وليت شعري لو أنها صرفت نصف وقتها هذا في مذاكرة دروسها لكنها المراهقة قاتلها الله. وحيث أرادت أن تفتن الآخرين بجمالها افتتنت هي الأولى به وصارت مرآتها محرابا وزينتها طقوسا وتأملاتها صلاة.

ساعات طويلة بذلتها لتخرج في أبهى حلة، لتكون الأجمل في قسمها بل في معهدها بل في المدينة كلها. تجرب الثياب، تضيف الأكسسوارات، تمسك بحقيبة يدها يمينا فشمالا، تمشي كالعارضات، تقف كالعارضات، تنظر شزرا كالعارضات، تلعب دورا كالممثلات. لا هم لها سوى زينتها ومظهرها وكم عبارات إعجاب ستحصدها وكم عيون مسحورة ستشيعها وكم فتى سيخطب ودها ويطلب قربها. إلا أنها …

إلا أنها كانت عفيفة في جوهرها، تحب أن تكون أنيقة وفاتنة الجمال لكن دونما إغراء ولا ابتذال. تعرف بفطرتها السليمة أن خير لباس هو لباس التقوى وخير زينة للفتاة هي الحياء، في حلها وترحالها، في سكوتها وكلامها، في جدها وهزلها. لم تكن تحبذ أبدا تصرفات بعض صويحباتها الماجنة ممن يقصرن ميدعاتهن ويطلقن ضحكاتهن الرنانة في الفضاء. ثم إنها كانت تخاف ربها حين تتذكره، وتعيش في عذاب الضمير، تعلم جيدا أن لباسها على حشمته لا يوافق ما أمر الله به في كتابه. فهذا شعرها منطلق كالحصان الجامح على شاطئ وجهها، وهذا عطرها الفاخر يتبعها حيثما خرجت، وهذا فستانها الأزرق على طوله يصف بعض مفاتنها، فأين هي من لباس التقوى والحياء؟

هكذا أنّبتها المرآة ذات مساء وهي تحاورها…

téléchargement - Copie

ارجعي تحجبي فإنك لم تتحجبي 1

مرآتي يا مرآة، هل أنا أجمل محجبة في البلاد؟

حدجتها المرآة بنظرة ثاقبة كالسهم. وتلبد وجهها بسحب سوداء. تغشتها قشعريرة ثم ثارت كعاصفة هوجاء. وكما البركان الغاضب يطلق حممه الثائرة، صاحت بها المرآة هادرة: ارجعي تحجبي فإنك لم تتحجبي.

فغرت فاها لهول الصدمة، ازدردت ريقها بصعوبة وأرادت أن تنطق فلم تقدر، سمعت الكلمات تجري في دماغها تبحث عن منفذ، تحاول أن تخرج إلى الفضاء الواسع. لكن هيهات. هل فقدت القدرة على الكلام؟ هل ألجمتها وقاحة هذه المرآة المتعجرفة؟

كانت تنتظر منها أن تبتسم في كل لحظة، أن يكون هذا مجرد مزاح ثقيل أو مقلب تقصدت به مباغتتها، لكن صفحة المرآة لاتزال مكفهرة كوجه موظف حكومي في صباح يوم بارد. يا إلاهي هل أنا أحلم؟

“يا نبي سلام عليك، يا رسول سلام عليك، يا حبيب سلام عليك، صلوات الله علي..”

أوقفت المنبه، فركت عينيها وتثاءبت في كسل. إذا كان حلما مزعجا. ويا له من حلم. نظرت إلى مرآتها المنتصبة كالشجرة اليافعة في الركن الأيمن من غرفتها. ليست مرآة ككل المرايا. هي هدية عزيزة من خالها الحبيب. أحضرها لها من إحدى رحلاته التي لا تنتهي إلى أدغال إفريقيا. مرآة رائعة من العاج لونها يستعصي على الفهم. تتذكر جيدا كلماته حين وضعها أمامها:

هذه مرآتك السحرية يا حبيبتي البهية، يا أجمل الجميلات، يا زهرة البنات.

كانت حينها في العاشرة من عمرها. فرحت كثيرا بهدية خالها، أخذت تداعبها وتبتسم في خفر. كانت تودع آخر أيام الطفولة وتدرج نحو سن الشباب. وما هي إلا ثلاث سنوات حتى تغير شكلها وباح جسدها بما كان يخفيه من أسرار الأنوثة والجمال. فقدت براءتها ككل الأطفال السائرين نحو سن الرشد والتكليف. كانت قبل تنظر للمرآة كتحفة جميلة تزين بها غرفتها، كذكرى عزيزة من خال محب. لكنها اليوم وقد بدأت تحس بأنوثتها، اليوم وقد تفتح عقلها على حقائق جديدة وقلبها على عوالم رهيبة صارت تنظر للمرآة نظرة مختلفة تماما…

unnamed

رب ارحمها كما ربتني صغيرة

admin1822291852

بينا أنا عائدة إلى بيتي أمشي الهوينى في ذاك الشارع الطويل إذ لمحت بنت الجيران. تلك الصغيرة ذات الثماني أو التسع سنوات. صرت أعرفها دونما عناء على بعد عشرين مترا رغم أني جديدة في الحي. وكيف لي أن أخطئها؟ تلك التي ترتدي دائما ملابس رثة وتصفف شعرها في شكل ضفيرة تتدلى على ظهرها. تلك التي تركض باسمة ببراءة الطفولة غير عابئة بما يدور حولها أو بصورتها في مرآة الأعين وزجاج النوافذ. هي متواضعة الجمال لكن… لمَ يحز في نفسي دائما أن أراها هكذا؟ هل قلت تصفف شعرها؟ العبارة مبالغ فيها.

أعرف هذي البنية ولا أخطئها لأنها ببساطة مهملة، شعثاء الرأس دائما. ما رأيتها يوما إلا ووجهها القمحي محاط بهالة سوداء، بخصلات شعر متمردة لم تعرف المشط لأيام. كلما صادفتها أحسست بالامتعاض، أليس لها أم حانية ترعاها وتعتني بها؟ أليس لها يد حريصة تصفف لها شعرها؟ أيهملونها لأنها لازالت صغيرة غافلة لا تشعر بعدُ بأنوثتها؟ أتراها يتيمة؟ ولو فرضنا، واجب على من يكفلها أن يمشط لها شعرها ولا يطلقها هكذا في الطريق شعثاء غبراء كذاك الرجل الشعث الذي تفرق شعره فلما رآه سيد الخلق قال عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام :

أما كان يجد هذا ما يسكن به شعره

وقال صلوات ربي عليه:

من كان له شعر فليكرمه

قد لا نختار لون بشرتنا وصفاءها، قد لا نختار حسن وجوهنا وضياءها، قد لا ننتقي نوعية شعرنا أو شكل عيوننا وبهاءها لكننا حتما نختار أن نغسل وجوهنا في الصباح أو نتركها ونختار أن نمشط شعورنا أو نهملها ونختار أن نطهر أثوابنا أو نذرها. وباختصار نحن نختار أن نشكر نعمة الخالق أو نكفرها. نحن نختار الجمال أو القبح. نحن مسيرون في خَلقنا مخيرون في خُلُقنا، في سلوكنا مع أنفسنا، في تعاملنا مع أجسادنا، في سمونا بأرواحنا.

والروح الجميلة تضيق بالجسد الوسخ، ونقاوة القلب تنعكس على طهارة الثوب ونفس المؤمن تهوى الترتيب والجمال وتنفر من الفوضى والإهمال. وكم من طفل وسيم قسيم تراه فتشتهي أن تقبله فإذا رأيت اللعاب يسيل على ذقنه وبقايا طعام تسيح في خده وخطوطا جافة تجمدت تحت أنفه نفرت منه وسخطت على أمه؟ أهذه هي زينة الحياة الدنيا؟

الله خلق كل شيء جميلا و أهدى لنا كونا بديعا فما لنا لا نتفكر؟ وما ذنب الصغار يأتي بهم الكبار إلى الدنيا ثم يهملونهم؟ ألا يبدأ بر الأبناء برعاية كل شؤونهم؟ بحفظ نظافتهم وصون شعورهم؟

والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها

الآن حين ألمح هذه البنية المسكينة أتذكر صيحات المعلمة حين كانت تصرخ بأعلى صوتها في القسم: “أمك امرأة مثالية، أمك تستحق جائزة من عند الرئيس !”

أتدرون لم كل هذا الهتاف؟ فقط لأن أمي لم تكن ترسلنا وأخواتي إلى المدرسة إلا وشعرنا مصفف كأحسن ما يكون وثوبنا نظيف وميدعتنا مكوية. كل هذا وأمي تشتغل داخل البيت راعية وخارجه أستاذة. بل أستاذة وراعية ومربية. كانت ومازالت مجاهدة .هي لا تستحق جائزة من عند الرئيس المسكين الفقير بل إني أرجو لها جزيل العطاء وخير الجزاء من الرزاق الكريم ذي القوة المتين. لأنها كانت راعية ومسؤولة عن رعيتها وأُشهد الله أن أمي أفنت شبابها وصحتها وجل أوقاتها في خدمتنا واتقت الله فينا وأنصفتنا وما كل الأمهات على تلك الدرجة من الإحسان. فيا رب ارحم أمي كما ربتني صغيرة. ولله الحمد من قبل ومن بعد.

وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا

الذي خلقني فهو يهدين (2)

PIC-745-1401642968

أشفق عليها زوجها وأظهر لها من الحنان واللطف ما خفق له قلبها. ثم تركها على مضض وذهب للتسوق وعاد إليها سريعا بما تحبه من طعام وبوردة حمراء وضعها بجانبها وراح يضمها ويدلك جسدها ليدخل عليها بعض الدفء. كان لباسا لها وسكنا لروحها، تفجرت ينابيع المودة والرحمة بينهما. تذكرت تلك العبارات الإلاهية القرآنية الخالدة وتجمعت الدموع في مآقيها. كم أنا أمة ضعيفة، لا حول لي ولا قوة إلا من

الذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينْ وَالذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينْ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينْ

بالأمس كنت أتفرعن في البيت وأحوّل حياة زوجي إلى جحيم لأسباب واهية. بالأمس كنت الآمرة الناهية واليوم صرت إلى سقم ووهن. فيا رب أسألك العفو والعافية!

مازالت نفسها مسدودة عن الأكل، هذه البيتزا التي تحبها، فلم تنظر إليها بتوجس؟ يشجعها زوجها فتتناول لقيمات عساهن يقمن عودها ثم تسرع إلى التدثر من جديد والبرد ينخر عظامها. حان وقت صلاة العشاء، خرج زوجها وتركها جالسة ساهمة أمام التلفاز الذي تآمر عليها مع المرض. فأينما قلبت عينيها لم تر إلا فيلما عنيفا أو برنامجا رديئا أو قلة حياء لا مثيل لها. فأين المفر من المرض والرداءة ويوم الأحد؟

كان عليها أن تصبر حتى ينقضي هذا اليوم الثقيل. استجمعت قواها وقامت لأداء الصلاة وهي تتوقع أن يدخل زوجها في كل لحظة. لكنها صلّت الشفع والوتر ولم يأت بعد. استغربت قليلا ثم صبّرت نفسها ولم ترد أن تستسلم لوساوس الشيطان الذي راح ينفث فيها سمومه: ما له كيف يتركك وحدك في هذا الليل البهيم وأنت مسكينة مريضة في أمسّ الحاجة إلى وجوده معك؟ لقد ذهب إلى الصلاة منذ زمن طويل ما له لم يعد إلى الآن؟ أتراه ذهب لعمته؟ فمنزلها قريب من المسجد. لماذا لم يخبرني بذلك؟

 كان بالفعل قد مضى على خروجه ساعة من الزمن، وما بدأ فكرة عابرة صار حقيقة قاهرة، أصبحت مقتنعة أن شيئا ما حصل لزوجها. ولم تملك الاتصال به فقد ترك هاتفه في البيت. هل تعرّض لوعكة صحية يا ترى؟ هل أخرج للبحث عنه دون مشورته؟  هل سأراه ثانية؟ انهمرت الدموع غزيرة من عينيها ولم تملك مدافعتها. ارتجف قلبها، صارت تبكي وتستغيث وتدعو الله أن يعود بزوجها سالما معافى كأنما ذهب للحرب في مكان بعيد… يا رب رُدّ لي زوجي، يا رب قد فهمت الدرس فائتين به ، يا رب سأحسن إليه سامحني ،لا إلاه إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمييين! وما إن دعت بدعوة يونس في بطن الحوت حتى سمعت صوت الباب الحديدي الخارجي يُفتح فهرعت إلى الأرض تسجد شكرا لله، لمن يجيب دعوة المضطر إذا دعاه. ولما دخل عليها زوجها لم تكف عن البكاء…

كل ما في الأمر أنه كان عائدا إلى البيت فاعترضه عمه وأكثر من السلام وطويل الكلام ولم يستطع أن يتملص منه إلا بشق الأنفس كما أنه لم يفطن إلى الوقت الذي مر سريعا. كانا يتحادثان على بعد خطوات من البيت … لكنها لم تغضب… لا ليس اليوم. ليس بعد أن فهمت الدرس، صحتك يمكن أن تخسرها في أية لحظة ولا تدري متى تستردها، حبيبك يمكن أن يغيب ولا تدري متى يعود وكم يعيش، فعلام تمشي  في الأرض مرحا؟ إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا.

ْبَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرين

الذي خلقني فهو يهدين (1)

يال هذه المرأة الغريبة العجيبة، دائمة الشكوى، سريعة البكاء. أمضت يومها تنقر نقر الديكة في دماغ زوجها المنهك من أسبوع طويل من العمل. تحوم حوله تطن طنين الذباب، تحبه لكن حبها في ذاك اليوم أعماها. تتفوه بالكلمة لا تلقي لها بالا فتفقده صوابه، وتتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم،

مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ

فتبتسم في جذل كأنما تتلذذ بتلك القوة الجهنمية التي تمتلكها، بذاك اللسان الأخرق والفكر الأحمق.

لكن زوجها نبيل، ذو خلق كريم، هيّن، ليّن، صبور. كثيرا ما يتجاوز عن سيئاتها بل ويستسمحها ثم يأخذها معه إلى حيث تشاء. وفي يومها ذاك خجلت من نفسها وعجبت لما تفوهت به من ترهات فكأنما خُمر عقلها أو عَميت بصيرتها. فجاءت حبيبها تمشي على استحياء وهمست له في تودد: أمازلت تحبني؟

فضمها إليه وقال: طبعا أحبك.

فأردفت: هل أنت راض عني؟

فنظر إليها نظرة المحكوم عليه بالحب والتعب وعيناه تشيان بطيبة قلبه وسماحة طبعه وقال: نامي مرتاحة فأنا راض عنك يا حبيبتي.

ولم تزدها طيبته إلا حبا وولها. وانبرى ضميرها يلومها ويؤنبها حتى خطفها منه نعاس لذيذ.

اليوم يوم جديد، الطقس جميل والشمس ترسل أنوارها الذهبية في زرقة السماء البهية. الفصل شتاء لكن الخروج في هذا الجو الرائق حتم لازم، من لم يصافح جمال الطبيعة فهو آثم. على أن الحسناء النائمة ما إن فتحت عينيها صباحا حتى شعرت بشيء في حلقها، كأن طعام البارحة مازال عالقا فيه. وأحست بمغص في أمعائها فدخلت إلى بيت الراحة ولم ترتح تماما. لكنها آنست في نفسها تحسنا فتناولت فطور الصباح مع زوجها  ثم تهيآ للخروج. سيعودان مريضا وبعدها يأخذها لنزهة في غابة خلابة ثم سيذهبان لشراء لوازم الأسبوع من غذاء وغيره ومن ثمّ يتناولان الغداء في مكان جميل تختاره هي طبعا ويعودان إلى البيت قبيل الغروب.

هكذا شاءت

وما تشاؤون إلا أن يشاء الله

فما إن تركا بيت المريض حتى أحست بالغثيان، فعاد بها زوجها سريعا إلى البيت وهناك استفرغت ما في بطنها ثم استلقت في إعياء على السرير وهي ترتعد من البرد. تعرف جيدا ذاك المرض اللعين. أصبحت على موعد معه في كل عام. يأتيها في يوم واحد بأعراض ثلاثة، يوم لا يُحسب من عمرها لأنها تصير فيه كالخرقة البالية، كل شيء يجهدها حتى الصلاة لا تكاد تؤديها إلا بشق الأنفس. القشعريرة  تسري في أوصالها، تكثر من الثياب وتتدثر بطبقات من الغطاء ولسان حالها يقول زمّلوني زمّلوني لكن البرد يسكن عظمها والوهن لا يكاد يفارقها إلا بعد ليلة نوم عميق. وفي الصباح تحس بضعف طفيف لكنها تغدو معافاة تماما كأن شيئا لم يكن…

large (2)

رفقا بالقوارير

دلفت سنية إلى البيت وشعرها الذهبي يتموج فوق كتفيها وما إن رأت زوجها حتى هتفت به معلنة:

أتعلم؟ لمياء صديقتي قد لبست الحجاب !

لمياء هي حلاقتها وصديقتها المقربة منذ سنين. وهي امرأة عصرية تهتم بأنوثتها وتلبس ما يحلو لها دون أن تقيم وزنا لحلال أو حرام، شأنها شأن الكثيرات اللاتي أغرتهن الحياة الدنيا بمفاتنها لا سيما وأن النساء هن المستهدفات قبل غيرهن من صناع الموضة في الملابس والأحذية  ومنتجي الأكسسوارات والمجوهرات وأرباب الماركات العالمية لأدوات الزينة ومستحضرات التجميل و العطور وغيرها. ومن الطبيعي أن تتجمل المرأة وتتزين ولكن فقط أمام محارمها ودون إفراط ولا تفريط.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا {الأحزاب:59}

 هز الزوج رأسه بتهكم وأردف: يا للخبر الجميل.

فتابعت سنية باسمة بأعين حالمة ونبرة حاسمة:

أنا أيضا سيأتي اليوم الذي ألبس فيه الحجاب، حتما سيأتي بإذن الله.

فأجابها بازدراء:

أحسنت حقا. أنت أصلا عجوز وإذا لبست الحجاب فستصيرين أعجز !

تجمد الدم في عروقها، حدجته بنظرة نارية وعيناها تكادان تخرجان من مآقيهما، ثم صاحت هادرة كالناقة المغتلمة:

ماذا تقول؟ أنا عجوز؟ تزوجتني شابة صغيرة يافعة، قطفتني زهرة غضة يانعة، أنجبت لك من الذكر والأنثى وقمت على رعايتك ورعاية أولادك وتربيتهم، أفنيت عمري وشبابي في خدمتكم والآن صرت عجوزا في نظرك؟ ألا فلتعلم أنني مازلت شابة وباستطاعتي أن ألبس المكشوف وأبدو فيه فاتنة لكنني لا أريد. وإني يوم أقرر أن ألتزم بالحجاب فلن تمنعني لا أنت ولا غيرك. هو قراري وحدي ولا دخل لك فيه! أتفهم؟

وتركته وانكفأت تبكي وتنشج ثم نذرت للرحمان صوما فلم تكلم يومها إنسيا خاصة إذا كان إنسيا اسمه إبراهيم وعمره خمس وخمسون سنة وأنجب منها ولدين وبنتا. صامت عن كلامه أسبوعا كاملا وقلبها يهتز بين ضلوعها ويختلج بمشاعر ما فتأت تعصف بها. كانت ثائرة حانقة غاضبة مجروحة في أنوثتها. كانت تصرخ في أعماقها: ألا يكفي أني أسير حثيثا نحو الخمسين لتذكرني بذلك أيها الزوج الجحود؟ يا عديم الذوق يا ذا الشوك كالقنفود!

جلست ساهمة تطالع وجهها في مرآة الزمن التي لا تكذب. ثم أغمضت عينيها فتراءت لها نفسها شابة في العشرين من عمرها تسرع إلى الجامعة حاملة معها كتبها وابنا كان يتشكل في جسمها. في الأول بدأ كتلة من اللحم تَكوَّر لها بطنها ثم صار فلذة كبد تمشي على الأرض بجنبها، كان رفيق دربها وصديقها. كان ودودا ووقودا لطموحها.

أكملت دراستها واجتازت الامتحانات وابنها يجري معها وزوجها يشجعها ويدفعها. تكللت زروع الصبر والمثابرة بقطوف النجاح الدانية. ثم سرعان ما اقتلعت مكانها في الوظيفة العمومية لكنها لم تتوقف عن الجري. فبعد فراس أتت أميرة وبعد الجامعة حلّت الإدارة ثم إنها كانت تتنقل بين مدينتين وعظمت مسؤولياتها لكنها أبدا لم تغلبها. وكيف لا وهي البنت الكبرى بين اثني عشر ولدا وبنتين؟ دأبت منذ طفولتها على مساعدة أمها في رعاية إخوتها الصغار الذين ما فتأوا يتناسلون وكلهم ذكور. لا تعول عليهم في كنس أو طبخ أو غسيل أو ترتيب. لقد هيأتها الحياة باكرا إلى ما سينتظرها من معادلات صعبة. كانت امرأة مجاهدة مثابرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

وهي إلى يوم الناس هذا تنهض في الخامسة صباحا فتتناول فطورها ثم تتهيأ فتلون وجهها بألوان المساحيق وتصفف شعرها الذي جربت عليه شتى أنواع الصبائغ وتحرص على اختيار الألوان المتناسقة مع ثيابها ثم تجهز أصغر أولادها وتحمله إلى جارتها. وأخيرا تسرع الخطى لتلحق بالسيارة التي تحملها ونفر من جيرانها إلى المدينة للعمل. فوسائل النقل شبه منعدمة في قريتها المتمدنة. وغالبا ما تكون أول الواصلين إلى الإدارة المتلكئة.

هذه هي حياتها التي بذلتها في خدمة عائلتها … عادت إلى المرآة تطالعها وهالها ما رأته من تجاعيد على جبينها وفي زوايا فمها وكبر عليها منظر الهالات السوداء تحت عينيها وتذكرت ما يقال من أن الإفراط في استعمال مساحيق التجميل يسرّع عمل الزمن ويصيب الجلد بالترهل واسودت الدنيا في عينيها… ولم تسود لأنها ابتُليت بزوج وَخَطَه الشَيبُ وهو لا يعرف صلاة ولا يُقرُّ حجابا بل يقرنه بالقبح والهرم وينكر معلوما من الدين بالضرورة …

unnamed

واغضض من صوتك

يوم الجمعة الفارط أردت أن أحس بأني مسلمة في بلد مسلم، أردت أن أعيش عيد المسلمين، أن أحيا بالدين، أن أُحيِيَ في يومي هذا السنة المطهرة: غُسل ونظافة ثوب، ذكر وطهارة قلب، دعاء يقربني من الرب، تسبيح واستغفار وكثرة صلاة على النبي المختار. أردت أن أعيش يوم الجمعة رغم أني في بلد لا يحفل بيوم الجمعة. فعيد المسلمين شأنه شأن يوم الإثنين أو الخميس، هو يوم عمل دنيوي. أما العطلة فقد بذلناها هدية لأعياد اليهود والنصارى: السبت والأحد، إنا حيارى هل من مدد؟

اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس!

كان هناك مسجد يُشاع أنه قبلة “السلفيين”، يأتونه من كل حدب وصوب، حتى أنهم يجتازون من أجله الجسر المتحرك للمدينة. وبسبب قربه من مكان عملي فقد تعودت الذهاب لأداء صلاة الظهر فيه وألِفَت قدماي الطريق المفضي إليه. زقاق ضيق لا يكاد يتسع إلا لسيارة واحدة، حي شعبي ومحلات متواضعة. منازل عتيقة بأبواب خشبية متينة تُنبأ عن زمن لم تكد تُأتى فيه البيوت إلا من أبوابها، لا من ظهورها ولا من أسطحها! قرد بائس ينط في قفص ضيق وجرو وكلب “كنيش” رماديا اللون، كلون الجدران، كلون الأرض، كلون السماء.

أعجبني هذا المسجد الذي لم تعرف حيطانه طلاء غير لون الاسمنت وأرضه فُرُشا غير الحُصر الخشنة. أعجبني شعوري فيه بالطمأنينة والتركيز. حسن ربما لأني خيّرت الانفراد بالصلاة في الطابق العلوي إذ أن الهواء في الطابق السفلي لا يطاق، رائحة عفن كريهة تعم المكان، فكيف تجلس فيه هاته النسوة ويتلون القرآن؟!

ومما راقني في هذا المسجد أيضا أنك لا تسمع إلا صوت الإمام عند الانتقال من حركة إلى حركة. فلا يأتيك صوت ثان يشوش عليك صلاتك على غرار ما عايشته في مساجد أخرى. حتى أني أذكر مسجدا بالخصوص عانيت فيه من هذه الظاهرة الذميمة التي لا أعلم لها أصلا في القرآن ولا في السنة. فإذا ما قال الإمام “الله أكبر” معلنا السجود، سمعنا صوتا ثانيا يكررها ويمططها متخذا في ذلك نغمة غريبة منكرة، مفوتا علينا فرصة التركيز والخشوع في أقرب موضع نكون فيه من ربنا. فسبحان الله، أهكذا تكون الصلاة؟! أنى للناس الاطمئنان وهذا الصوت لا يفتأ يُبدئ ويعيد؟ يكرر ويزيد؟ حقا تخلصت من تشويشه في هذا المسجد!

مسجد سمعت عنه الكثير فصرت أتشوّف لحضور صلاة الجمعة فيه. وهو أمر قد جربته مرات قليلة في مساجد متفرقة وفي كل مرة أندم وأرثي لحال الرجال. فيال الخطب الهزيلة ويال البعد عن مشاغل الناس كأن واجب الإمام هو فقط التذكير بالحلال والحرام، دونما خوض في هموم الأمة وما ألمّ بها من جروح وآلام. ثم يا لثقافة الصياح، الحق لا يحتاج إلى صياح، ألا يكفيك مكبر الصوت؟ أين الإحسان في مساجدنا؟ ما لهذه الأمة لا تعرف إلا الصياح في الأفراح والأتراح، في المقابر و في الملاعب و في الشوارع وعلى المنابر؟! فلنسمع لقول الله جل في عُلاه:

واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير

طفق الإمام يصيح هادرا متحدثا عن خطر الشائعات وأتى بأمثلة لا يجهلها إلا معلوم الجهل بالدين وبتاريخ الأولين. أمثلة كغزوة أحد وحديث الإفك وغيرها، شواهد وحوادث لا تغني ولا تسمن من جوع للعلم واستزادة في الخير. مواقف تاريخية خالدة كان من المفترض أن نتعلمها صغارا ونعمل بها كبارا لكنه الاستعمار قاتله الله!

أعلم أن من الحضور من هو أمّي القراءة والكتابة ومن هو أمّي الفكر والثقافة ومن هو بسيط العقل قليل النباهة، أعلم أن خطبة الجمعة لا بد أن ينتفع بها الناس على اختلاف أعمارهم ومشاربهم ومداركهم. لكن النفس تواقة لخطبة تهزها، لمعلومة جديدة تضيفها كلؤلؤة نفيسة في عقدها، لآية تسمع أول مرة تفسيرها، لحديث لم يدر قبل في خلدها. كم نحن بحاجة لكلمات كَسَنا البرق تضيئ ظلام قلوبنا، تقض مضاجعنا، توقظنا من غفلتنا. أما الصياح فلا حاجة لنا به، فمكبر الصوت يصيح بمهارة يصعب مجاراتها، أما البلاغة والحكمة والفصاحة، أما الإبانة والكياسة فقد صارت بضاعة ثمينة وغاية عزيزة، وكل من هب ودب يُنصّب نفسه إماما وهو لا يجيد فنون الخطابة بل قد يخطئ في أحكام التجويد، بل قد لا يصلح صوته للتلاوة لكنه زمن الرداءة وقد جاد الفقير بما عنده!

إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ

أعرف ذاك الرجل، أعرفه جيدا. يجلس دائما في هذا المكان، يفترش الأرض مسنِدا ظهره إلى حائط المصرف. يفرد بين يديه أكواما من الأعشاب وبجانبه كيس كبير. صحيح أنني لم أره يوما يتسول لكني حسبتُه ممن قال الله فيهم:

يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف 

 (البقرة ٢٧٣)

أي أنه لا يبيع شيئا ذا بال، فأي أرباح ستَدُرُّ عليه هذه التجارة البائسة؟ رأس ماله كيس من الأعشاب، أما دكانُهُ فأرضُهُ الرصيف وسقفُهُ السماء. هيأَتُه رثّة ولِحيته كثّة ولسان حاله يهمس خلسة : أنا محتاج، حتى إن لم يقلها! كانت هذه الأفكار تجول في خاطري وكنت أحترمه وأخجل من شَيْبَته. لا سيما إذا ما قارنْتُه بجارتِه، تلك التي افترَشَت الرصيف أيضا وبضاعتها رضيعة لا تفتأ تسيئ إليها بعرضها هكذا أمام الملأ والاتجار بها. كم أمقُتُ تلك التي تستدِرُّ عطف الناس بطفلة بريئة لا ندري من أين جاءت بها. هذه لن تنال مني شيئا ولا أرثي لحالها. لكن هذا الرجل .. يا الله! يتظاهر بأنه يبيع شيئا ليحافظ على ماء وجهه، ليسمو بنفسه عن جمهور الشحاذين ويلتحق بفئة صغار التجار والباعة المتجولين.

هو يتعفف عن التسول. لكني أعلم أن جِلسَتَه هذه في قارعة الطريق هي طريقة غير مباشرة للاستجداء. كان جالسا مطرقا مطأطئ الرأس، ينظر إلى سلعته ويتحسس الأعشاب بأنامله. لا ينظر إلى أحد ولا هو يستجدي النظرات. فأتيته أنا بجهلي وشهادتي العلمية ورصيدي في البريد وألقيت له بضع دراهم ثم واصلت سيري غير عابئة بندائه. أراد أن آخذ منه شيئا مقابل النقود لكني لا أريد. ما حاجتي برزمة من الأعشاب ستشغل حيّزا في محفظتي ثم سينتهي بها المقام في حاوية الفضلات؟ لقد أعياني المشي في هذا اليوم القائظ وأنهكتني ألسنة الشمس الملتهبة وبيتي مازال بعيدا. تلفّتُّ نحوه دونما توقف وغمغمتُ أن “لا بأس” ثم واصلت سيري وتابع هو احتجاجه. أنا آسفة يا سيدي لكن ليس لدي طاقة أنفقها لمراعاة نفسك الأبية.

بعد أيام وجدته ههنا كعادته، جالسا على مقربة من محطة الحافلات. أردت أن أعيد الكرة، أن أعطيه نقودا بدون مقابل. لمَ لا يقبل هذه الإعانة البسيطة مني؟ إن هي إلا دريهمات قليلة لا تغني ولا تسمن من فقر. هممتُ بالانصراف كالعادة لكنه استوقفني ووجدتني أستجيب له. أردت أن أجادله، أن أقول له لا بأس إن أردتُ مدَّ يَدِ العون، أنا لا أحتاج لأعشابك، أعلم أنك تريد أن تستعفِفَ عن سؤال الناس ولهذا السبب بالذات أتمنى أن تقبَلَ “هديتي” المتواضعة. لكنه بدا صارما. قال لي: “هذه عشبة إكليل خذيها فهي نافعة”. فقبِلْتُها على مضض وشعرت بالارتياح لهذه الدردشة الصغيرة. أرتاح دائما إلى التحدث مع الناس البسطاء، مع الذين لا يملكون تلفازا ولا مذياعا ولا هم أفسدتهم مناهج تعليم تغريبية وثقافة غرب مستوردة نكراء. لم يكن صاحبي قد اكتفى بل أراد أن يضيف لي رزمة أخرى من الإكليل وألح أن آخذها لأن ما دفعتُه من نقود يبتاع لي أكثر من واحدة. فأذعنت له بعد مقاومة يائسة وكنتُ أهمُّ بالذهاب حين قال لي: “أنا لا أحب أن آكل مالا حراما. سيسألني ربي عنه فماذا أقول؟ يجب أن تحصلي على حقك كاملا!”

نظرت إليه لأول مرة بإمعان: شعره أبيض وكذلك لحيته، وجهه الأسمر يوحي بالجلال، وبدلته الزرقاء تُخبرُ عن سنين شغل طوال. نظرَتُه تشي بالرضا والاطمئنان. لم أر في ملامحه أدنى علامة للغضب أو السخَط، كان يرتسم على محياه العزم والجِدُّ فقط. وجدتُني في لحظة أمام شيخ ورع تقي مَهيب، كلماته تغني عن آلاف الخطب، ورعه لا تصادف مثله إلا في صفحات الكتب، وجدتني أمام شخص قادم من زمن آخر بعيد مداه، من زمن كان الناس يخشون فيه الله. وأعادني هذا الموقف إلى ما سمعته مؤخرا على لسان الدكتور طارق سويدان. لا أدري إن كان ذلك أثرا أو حديثا لكن فحواه أن الجنة مليئة بالفقراء لأنهم لا يملكون شيئا فحسابهم يسير أما الأغنياء فهم يتعطلون على أبوابها لطول الحساب ثم الله وحده يعلم أين يكون المآب. ومرت ثوان قبل أن يسعفني لساني ببضع كلمات، فسمعتُني أقول له: “ليت كل الناس مثلك”. ثم أخذت أعشابي وحملت جهلي وفقري وانطلقت. وذهبَت نفسي حسرات على نفسي وتذكرت:

(( لا تزولُ قدَمَا عبد يومَ القيامة ، حتى يُسألَ عن أربع : عن عُمُره فيمَ أفناه ؟ وعن عِلْمِهِ ما عمِل به ؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ؟ وعن جسمه فيم أبلاه ؟ ))

فرثيت ولولا قسوة قلبي لبكيت. ثم ذكرت حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام:

 رُبَّ أشعَثَ أغبَرَ ذي طِمرَينِ لا يُؤبَهُ لهُ لَو أقسَمَ علَى اللَّهِ لأبرَّهُ
 

فعجبت!

لكأني بهذا الرجل يأتي يوم القيامة فيقول

ْهَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَه

(الحاقة ١٩)

 

أمّا أنا فما علمتُ كيف يكون كتابي وهل سآخذه بيميني أم بشمالي؟ أمّا أنا فأعيش غافلة لا أبالي. كم أنا في حاجة لدعائه قبل زوالي!

Image

من يرحم صغيرنا

في يوم اشتريتُ بعض الملصقات لأبطال الصور المتحركة وأهديتها لابنة أختي آلاء. فسُرَّت بها أيما سرور. لكن ما إن وقعت بين يديها حتى جاءتها أختي الصغرى وأخذت منها ملصقا لتُزين به هاتفها الجوال. فما كان من آلاء إلا أن انفجرت بالبكاء. وحُقَّ لها ذلك، فقد أُخذ منها شيء عنوة، وهي بلا حول ولا قوة.

أما أختي، فتعجَبَتْ من سلوكها وانتهَرَتها بحُجة أنه مازال عندها عشرات الملصقات الجميلة فعَلاَمَ كل هذا الجزع؟ “أنا دائما أفتح لك باب غرفتي وأضع جميع أشيائي بين يديك تلعبين بها وتُجَربينها وأنت تبخلين علي بملصق تافه؟ لن أرجعه لك!”

عجبتُ لأختي كيف تُكلم آلاء بتلك الطريقة وكأنها ند لها! حتى إني حسبتها تُمازحها في البداية ثم ستُرجع لها ملصقها. إلا أنها لم تكن تمزح إطلاقا بل كانت في غاية الجدية، حتى إنها أصرت على موقفها رغم بكاء آلاء واستنجادها بنا. مسكينة صغيرتي!

قالت لي أختي: يجب أن نعلمها المشاركة، لماذا تنفرد بكل شيء لنفسها؟ ثم إنها كانت مشاغبة اليوم وتستحق العقاب.

قلت: لا تزر وازرة وزر أخرى. أعلم جيدا أفاعيلها لكنك في هذا الموقف ظلمتِها واستغليتِ صغر سنها وضعفها لتسلبيها حاجتها ونفسها كارهة. لمَ العجلة؟ هي مازالت لم تفرح بالهدية وأنت أخذت جزءا منها. ستحس بأن هديتها ناقصة. كان عليك أن تدعي لها الفرصة لتتمتع بها ثم إن شاءت أعطتك ما أردتِ وأنا واثقة أنها لن تبخل عليك به.

قالت: حسن ما قلت ولكنها تبالغ في الدلال.

قلت: عزيزتي لا تنسي أن آلاء على حداثة سنها إلا أنها إنسانة ولها كيان وكرامة وهي غدا ستكبر إن شاء الله وتصير في مثل سنك. أليس حريا بنا إذن أن نعاملها كإنسان بالغ عاقل وأن نحترم شخصيتها؟ هي ليست دمية، هي قلب يَنبض وعقل يُميز وذكاء يَتدفق وشخصية تُصقَل. صحيح أنها في الرابعة من عمرها إلا أنها إنسانة ولا يجوز أن نغتصب منها شيئا بدون رضاها. هذا ظلم! ثم أي نوع من الدروس سنلقنها؟ أن القوي يأكل الضعيف؟ ألم تسمعي حديث رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام عندما خطب في حجة الوداع فكان مما قال :

ألا إن المسلم أخو المسلم فليس يحل لمسلم من أخيه شيء إلا ما أحل من نفسه

والله قد عجبتُ من هذا الحديث حين قرأته، قلت سبحان الله ديننا الحنيف لم يترك صغيرة ولا كبيرة من حياتنا إلا خاض فيها. فهذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يوصينا بأن لا نظلم بعضنا البعض ولو قيد أنملة وهذا الرب العظيم لم يَدَع سببا من أسباب التباغض والتشاحن والشقاق والنفاق إلا وألغاه ولم يَذَر شِقّا ولو صغيرا للحيف إلا سدَّه! والله هذا الحديث وحده يجدد الإيمان!

ولا تبخسوا الناس أَشياءهم

(هود ٨٥)(الأعراف ٨٥)(الشعراء ١٨٣)

نحن لسنا بملائكة لا سيما في مجتمعاتنا العصرية، مجتمعات جرفتها العالمية الهوجاء والليبرالية العمياء والاستهلاكية المفرطة. فصرنا نقدس الأشياء ونتعلق بها تعلق الغريق بخشبة النجاة. صرنا نتشبث بالأشياء عوضا عن الأشخاص، عوضا عن رب الناس. وكم سمعنا عن جرائم مروعة تحدث بسبب خلاف على متاع الحياة الدنيا الزائل، كم من جريمة قتل بسبب هاتف جوال أو حتى بسبب دينار!! ولأن ديننا لا ينتظر وقوع المصيبة ليُعاَلِجَها بل يُعاجِلُهَا بمنع أسبابها ويبتدئها بتعطيل وجودها من الأساس، فقد عَلَّمَنَا أن لا نأخذ شيئا من أحد إلا عن طيب خاطر. ونحن نعلم جيدا متى يكون إعطاء الشيء عن طيب خاطر ومتى يكون حياءا أو نفاقا أو غفلة. اللهم نعوذ بك أن نأخذ شيئا لإخواننا عنوة. اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك. وآخر دعوانا أن الحمد لله… الحمد لله على دين الإسلام وكفى به نعمة.

آه نسيت أن أخبركم عن بقية القصة… أو ربما لا حاجة لنا في ذلك، أنتم تعرفونها.

image

وَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ

جلسنا نحتفل بمناسبة، أنا وأمي وأبي وبقية أفراد العائلة. حديقة جميلة وأطفال يلعبون. شفق يرتسم على صفحة بحر وسكون. نسيم يُنعش الروح وضحكات صغار كالورود تفوح. قلوب تُسبح بحمد ربها الذي جمعها في خير وعافية.

كنا نهُمّ بالذهاب حين تراءى لنا منظر فتاة لا تلبس الكثير من الثياب. شعر طويل مرسل على كتفيها كحصان جامح، كتلك المغنية الكولومبية. شعر طويل وساقان عاريتان تماما إلا من بعض السنتيميترات القليلة، قطعة قماش يتيمة تغطي شيئا من البَدَن حتى لا يصير تماما كالبُدْن!

قالت أختي بامتعاض: ما لهذي الفتاة تلبس هكذا؟ يا للخسارة واتباع الهوى!

قلت: دعيها أختنا، ألم تري صغر سنها؟ أغرّك طول قامتها؟ أو بعض معالم أنوثة فتية في جسمها؟

قالت: بلى

قلت: إنما هي ضحية لأبويها، أتحسبينها هي المشكلة؟

قالت : أراها كبيرة.

قلت: بل هي صغيرة، ربما في الحادية أو الثانية عشرة من عمرها.

ومازلنا هكذا حين رأينا طفلة أخرى لا تتجاوز التاسعة، بدت عليها علامات بدانة مبكرة. كانت كحال “أختها” إلا أن شعرها كان مشدودا ووجهها مستديرا وثغرها باسما، كانت طفلة صغيرة بريئة بأتم معنى الكلمة ! فهتفت أختي: لمَ؟ هل الحرارة مرتفعة لهذه الدرجة؟ لمَ لا يسترونها؟ ثم نتعجب من الفتيات كيف يفقدن الحياء؟ هذه عندما تكبر ستصبح وقحة جسورة، لا تعرف حشمة ولا استحياء.

نظرتُ إلى الأب الديوث وإلى الأم الجهول فإذا هي محجبة. لكن حجابها يحتاج لحجاب. كم من نماذج هكذا؟ الأم محجبة والابنة كأنها نجمة سينمائية في عُريها، في مشيتها، في زينتها. والأم فخورة مبتسمة، ترافق وليدَتها لتشتري لها مزيدا من سنتيمترات القماش اليتيمة، مزيدا من الملابس المثيرة، مزيدا من العطور وأدوات التجميل والزينة. تُزينها كدمية ثم تبيعها مجانا للعيون. يا لكفر النعمة ونقص العقل وجهل الدين، يا للجنون!

قلت لأختي: أرأيتِ ما أرى؟ هذه الصغيرة هي تلك “الكبيرة” مع فارق في التوقيت. هي نفسها الموؤودة طفولتها، المسلوبة فطرتها، المنهوبة هويتها، المغتصبة كرامتها. لأن الله أكرمنا بلباس التقوى ومن تخلى عنه فقد تخلى عن كرامته وفرط في إنسانيته وأراه الشيطان سَوْءَته، فيال سوء المنظر ويا لهول المنقلب : يرفع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما.

مسكينة تلك الصغيرة وتلك الكبيرة وتلك المتوسطة، مسكينة الطفولة المغتصبة والفطرة المغتالة وكل فتاة عوّدها أبواها على العُري. كم يا ترى يلزمها من الوقت لتعيد اكتشاف نفسها؟ لتتعرف على ربها؟ لتتفقه في دينها؟ لتدرك ما لها وما عليها؟ أنا مع نشأتي في عائلة محافظة، انتظرت عشرين سنة لأسمع آيات الحجاب فكم عليها أن تنتظر هي؟ وماذانتوقع من فتاة نشأت على العُري وهي صغيرة؟ أي نوع من المراهقات ستصير وأي لون من النساء ستغدو وأي ضرب من الأمهات ستصبح وأي صنف من الأجيال ستربي؟

     مَنْ لِي بِتَرْبِيَةِ النِسَاءِ فَإِنَهَا         فِي الشَرْقِ عِلَةُ  ذَلِكَ الِإخْفَاقِ

من لي برأب هذا الصدع يا ترى؟ أننتظر عشرين سنة حتى تصير الطفلة في عمر الزواج وتفتن بجمالها ذا خلق ودين فيتزوجها شريطة أن تستر نفسها بلباس الحشمة والطهر والعفاف؟ لقد رأيت هذا بأم عيني في أسر مردت على التحرر من الحلال والحرام ونشأت بناتها كالدمى في الصِغَر وكعارضات الأزياء في الكِبَر حتى منَّ الله عليهن بأزواج صالحين وهداهن إلى لباس التقوى والحياء. ورأيت أخواتهن ارتبطن برجال ديوثين فواصلن على درب الضلالة والغفلة ووحده الله يعلم متى سيلتحقن بالركب وهل يلحقن به في الوقت المناسب أم لا !

الأب كان راعيا وغير مسؤول عن رعيته والأم كذلك فانتظرت الفتاة المسكينة سنين طوال حتى وجدت من ينتشلها من مستنقعات الجهل وغياهب الضلال، تعلمت أن تمشي على استحياء لا في دلال. تحررت من براثن الجاهلية الأخرى، جاهلية الغرب المتأخر ولباس البهائم، لباس لا يُغني ولا يستر من عُري.

رأيت تلك الفتاة الصغيرة فحضرني حديث خير الأنام، محمد بن عبد الله عليه أزكى الصلاة والسلام إذ قال:

“ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كماتنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء”

قلت كم من منتمين لدين الفطرة يغتصبون فطرة أبنائهم، ينتهكون حرمة براءتهم، يقتلعون زهرة شبابهم، يدنسون أجمل أوقاتهم، يحرمونهم من ثواب شاب نشأ في طاعة الله، يستظل بظل ربه يوم لا ظل سواه. كم من منتسبين لدين الفطرة يغتالون فطرة أبنائهم، يؤخرون توبتهم، يعطلون مداركهم، يُنَوِّمون وعيهم، يُفسدون خلقهم السوي وربي يقول

يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم

الذي خلقك فسواك فعدلك

الانفطار ( 6-7)

لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم 

 التين (4)

من يُقوم الاعوجاج؟ من يصلح الانحراف؟ من يُحيي الفطرة؟ من يدفع ثمن تأخر توبة العبد؟ من يضمد جراح قلب تعب من العيش بعيدا عن الرب؟ من يرفع الدنس؟ من يدفع المظلمة؟ من يكسو العري ويعري المغتصب؟ من يلبس الحياء ويفضح الاستهزاء؟ من لي بهؤلاء؟

article 2