وَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ

جلسنا نحتفل بمناسبة، أنا وأمي وأبي وبقية أفراد العائلة. حديقة جميلة وأطفال يلعبون. شفق يرتسم على صفحة بحر وسكون. نسيم يُنعش الروح وضحكات صغار كالورود تفوح. قلوب تُسبح بحمد ربها الذي جمعها في خير وعافية.

كنا نهُمّ بالذهاب حين تراءى لنا منظر فتاة لا تلبس الكثير من الثياب. شعر طويل مرسل على كتفيها كحصان جامح، كتلك المغنية الكولومبية. شعر طويل وساقان عاريتان تماما إلا من بعض السنتيميترات القليلة، قطعة قماش يتيمة تغطي شيئا من البَدَن حتى لا يصير تماما كالبُدْن!

قالت أختي بامتعاض: ما لهذي الفتاة تلبس هكذا؟ يا للخسارة واتباع الهوى!

قلت: دعيها أختنا، ألم تري صغر سنها؟ أغرّك طول قامتها؟ أو بعض معالم أنوثة فتية في جسمها؟

قالت: بلى

قلت: إنما هي ضحية لأبويها، أتحسبينها هي المشكلة؟

قالت : أراها كبيرة.

قلت: بل هي صغيرة، ربما في الحادية أو الثانية عشرة من عمرها.

ومازلنا هكذا حين رأينا طفلة أخرى لا تتجاوز التاسعة، بدت عليها علامات بدانة مبكرة. كانت كحال “أختها” إلا أن شعرها كان مشدودا ووجهها مستديرا وثغرها باسما، كانت طفلة صغيرة بريئة بأتم معنى الكلمة ! فهتفت أختي: لمَ؟ هل الحرارة مرتفعة لهذه الدرجة؟ لمَ لا يسترونها؟ ثم نتعجب من الفتيات كيف يفقدن الحياء؟ هذه عندما تكبر ستصبح وقحة جسورة، لا تعرف حشمة ولا استحياء.

نظرتُ إلى الأب الديوث وإلى الأم الجهول فإذا هي محجبة. لكن حجابها يحتاج لحجاب. كم من نماذج هكذا؟ الأم محجبة والابنة كأنها نجمة سينمائية في عُريها، في مشيتها، في زينتها. والأم فخورة مبتسمة، ترافق وليدَتها لتشتري لها مزيدا من سنتيمترات القماش اليتيمة، مزيدا من الملابس المثيرة، مزيدا من العطور وأدوات التجميل والزينة. تُزينها كدمية ثم تبيعها مجانا للعيون. يا لكفر النعمة ونقص العقل وجهل الدين، يا للجنون!

قلت لأختي: أرأيتِ ما أرى؟ هذه الصغيرة هي تلك “الكبيرة” مع فارق في التوقيت. هي نفسها الموؤودة طفولتها، المسلوبة فطرتها، المنهوبة هويتها، المغتصبة كرامتها. لأن الله أكرمنا بلباس التقوى ومن تخلى عنه فقد تخلى عن كرامته وفرط في إنسانيته وأراه الشيطان سَوْءَته، فيال سوء المنظر ويا لهول المنقلب : يرفع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما.

مسكينة تلك الصغيرة وتلك الكبيرة وتلك المتوسطة، مسكينة الطفولة المغتصبة والفطرة المغتالة وكل فتاة عوّدها أبواها على العُري. كم يا ترى يلزمها من الوقت لتعيد اكتشاف نفسها؟ لتتعرف على ربها؟ لتتفقه في دينها؟ لتدرك ما لها وما عليها؟ أنا مع نشأتي في عائلة محافظة، انتظرت عشرين سنة لأسمع آيات الحجاب فكم عليها أن تنتظر هي؟ وماذانتوقع من فتاة نشأت على العُري وهي صغيرة؟ أي نوع من المراهقات ستصير وأي لون من النساء ستغدو وأي ضرب من الأمهات ستصبح وأي صنف من الأجيال ستربي؟

     مَنْ لِي بِتَرْبِيَةِ النِسَاءِ فَإِنَهَا         فِي الشَرْقِ عِلَةُ  ذَلِكَ الِإخْفَاقِ

من لي برأب هذا الصدع يا ترى؟ أننتظر عشرين سنة حتى تصير الطفلة في عمر الزواج وتفتن بجمالها ذا خلق ودين فيتزوجها شريطة أن تستر نفسها بلباس الحشمة والطهر والعفاف؟ لقد رأيت هذا بأم عيني في أسر مردت على التحرر من الحلال والحرام ونشأت بناتها كالدمى في الصِغَر وكعارضات الأزياء في الكِبَر حتى منَّ الله عليهن بأزواج صالحين وهداهن إلى لباس التقوى والحياء. ورأيت أخواتهن ارتبطن برجال ديوثين فواصلن على درب الضلالة والغفلة ووحده الله يعلم متى سيلتحقن بالركب وهل يلحقن به في الوقت المناسب أم لا !

الأب كان راعيا وغير مسؤول عن رعيته والأم كذلك فانتظرت الفتاة المسكينة سنين طوال حتى وجدت من ينتشلها من مستنقعات الجهل وغياهب الضلال، تعلمت أن تمشي على استحياء لا في دلال. تحررت من براثن الجاهلية الأخرى، جاهلية الغرب المتأخر ولباس البهائم، لباس لا يُغني ولا يستر من عُري.

رأيت تلك الفتاة الصغيرة فحضرني حديث خير الأنام، محمد بن عبد الله عليه أزكى الصلاة والسلام إذ قال:

“ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كماتنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء”

قلت كم من منتمين لدين الفطرة يغتصبون فطرة أبنائهم، ينتهكون حرمة براءتهم، يقتلعون زهرة شبابهم، يدنسون أجمل أوقاتهم، يحرمونهم من ثواب شاب نشأ في طاعة الله، يستظل بظل ربه يوم لا ظل سواه. كم من منتسبين لدين الفطرة يغتالون فطرة أبنائهم، يؤخرون توبتهم، يعطلون مداركهم، يُنَوِّمون وعيهم، يُفسدون خلقهم السوي وربي يقول

يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم

الذي خلقك فسواك فعدلك

الانفطار ( 6-7)

لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم 

 التين (4)

من يُقوم الاعوجاج؟ من يصلح الانحراف؟ من يُحيي الفطرة؟ من يدفع ثمن تأخر توبة العبد؟ من يضمد جراح قلب تعب من العيش بعيدا عن الرب؟ من يرفع الدنس؟ من يدفع المظلمة؟ من يكسو العري ويعري المغتصب؟ من يلبس الحياء ويفضح الاستهزاء؟ من لي بهؤلاء؟

article 2

أضف تعليق